بعض ملامح النقد الصامت في شعر الملحون –  ذ محمد الراشق

بعض ملامح النقد الصامت في شعر الملحون –  ذ محمد الراشق

بعض ملامح النقد الصامت في شعر الملحون
 ذ محمد الراشق

 هذا المقال تم نشره من طرف جمعية هواة الملحون بمراكش
من خلال الكتاب الذي ألف بمناسبة تكريم الأستاذ عبد الله الشليح
وجميع حقوق النشر محفوظة للجمعية

تـــقـديـــــم:

 الملحون فن وإبداع شامخين، وهذا الشموخ الوازن يتيح للدارسين العديد من الإمكانات الممكنة تغنيه بالعديد من المقاربات والتلوينات النقدية،والتي من خلالها نستطيع الوقوف عند العديد من المحطات الأساسية والتي هي بمثابة قيمة مضافة لإنتاج مبهر.. استطاع أن يدرك ماهية تصريف الذائقة الفنية.. وتحقيق ميزة الدهشة الجمالية…ويكفينا من خلال هذه المقاربة، أن نتعرف أكثر على مجال خصب تتضمنه قصائد الشعراء الكبار وأعني به، ما يصطلح عليه ب : »النقد الصامت » ونعني بالنقد الصامت،تلك الإشارات النقدية والتنظيرية، والتي لايعلن الشاعر عنها مستقلة وواضحة، ولكن تأتي بها بين ثنايا قصيدته، ومن خلالها نكتشف ميولات المبدعين النقدية، والتي لايعلنون عنها جهارا في كتب متفردة… وإنما تنبث في سياق أشعارهم واضحة للعيان..ومن مميزات النقد الصامت تحقيق مايلي:

–         التعرف على المستوى المعرفي للشاعر

–         استنتاج ميولاته النظرية. 

–         بناء قاعدة نقدية انطلاقا من نصوصه المتضمنة لإرهاصات نقدية مشجعة. 

–         ربط أفكاره النقدية بمدارس وتيارات وتجارب مختلفة. 

–         تحفيز الدارسين على تنوع التناول والاجتهاد في مجال البحث والاستكشاف 

ونحن نعلم أن حضور الاهتمام بالنقد الصامت في شعر الشعراء هو قليل جدا.. وذلك لأن الآراء لنقدية والتنظيرية وفيرة ومتجددة، ولها انتشار واسع.. ولكن بالنسبة لشعر الملحون،وأمام ندرة الدراسات النقدية المهتمة بشعره وفنه، فلايسعنا إلا استثمار كل ما يشجعنا على قراءته بشكل يجعلنا ندرك أننا أمام عمل أدبي عظيم، ظلمه النقد وقصر في حقه، لكننا لانضع أيدينا أرضا وننسحب، بل نساهم في إبداع أدوات تقربنا من تناوله في شكل  نقدي مقبول..

لقد انتقل شعر الملحون إلى مرحلة تدقيقه وتمحيصه علميا،بعد اهنمام الدارسين الجامعيين به، وخزانات هذه الجامعات عبر التراب الوطني تحتضن حاليا مجموعة من الأطاريح حول الملحون ابتداء من الإجازة إلى الماستر ووصولا إلى شهادة الدكتوراه..وكم أسعدني كما أسعد غيري من الباحثين والمهتمين، عمل الأساتذة الأجلاء في تأطير مجموعة من الطلبة أهل الاهتمام بالملحون. إلى درجة المساهمة الفعلية في إنتاج قراءة تفاعلية لهذا اللون من الشعر المغربي الأصيل.. ومن ذلك الكتاب لجماعي الهام الذي أصدره طلبة شعبة اللغة العربية وآدابها – وحدة الشعر والموسيقى- كلية ظهر المهراز بفاس العامرة..تحت إشراف الأستاذ الباحث عبد السلام الشامي.. والكتاب يحمل عنوان :  » الموضوع في قصيدة الملحون ».. (1) وكلها إنجازات تصب في خانة ما نطمح إليه من اهتمام شبابنا المغربي بملحون بلاده الغالية، وفي ذلك لنا أمل نترجاه كبيرا….

1) النقد الصامت في شعر عبد الله بن احساين ( الإلهام والشعر السلس):

وبالنسبة للنقد الصامت والمندس بين ثنايا نصوص مجموعة كبيرة من الشعراء، فإننا سنستدل ببعض التجارب فقط على أننا سنعود لتوسيع دائرة البحث مستقبلا..

وستكون البداية مع الشيخ المؤسس سيدي عبد الله وا لحساين(2)  والذي وضع الأسس الإجرائية لقصيدة الملحون الغنائية،معلنا عن انتقالها من مرحلة إلى أخرى

من كان حتى كان إلى عالم الأوزان.. وفي ذلك يقول 

 نبْدا بالله سلامي ياللي بْغا لـــــــــوزانْ

 لوزان خيرْ لي أنايا من قولْ كانْ حتى كانْ

 ربي اللي الهمني نمدحْ جدّ الشرْفا يالخوانْ

  بالشعر السليس الفايزْ هو يكونْ لي عْـــوانْ.(2)

 ومن خلال هذه الأبيات القليلة،ندرك قيمة عبد الله  والحساين الثقافية والمعرفية.. حيث استطاع أن يثير الانتباه إلى العديد من المفاهيم النقدية، نذكر من بينها قضية الإلهام allusion  ثم قضية الشعر السلس…

فالنسبة لمفهوم الإلهام فقد تم تناوله قديما في عصرتوهج الفكر اليوناني ، حيث جاء عند بعضهم كون الشعر إلهام من العالم الأعلى، إلى العالم الأدنى، وعند افلاطون أن الشعر الممتاز إلهام من الآلهة..وعند قدماء الجاهلية أن الشعر إلهام من الشياطين.. يقول الجاحظ في هذا الشأن:  « .. وإنهم يزعمون أن مع كل فحل من الشعراء شيطانا يقول ذلك الحل على لسانه الشعر..(3)

أما الشعر السلس الذي جاء ضمن أبيات الشاعر عبد الله  وا لحساين، نجد أن نفس التسمية كانت معروفة لدى مجموعة من شعراء العصر الجاهلي،حيث كان متداولا بينهم.. ومن أشهر من أبدع فيه امرئ القيس، وهو نوع بسيط  من الشعر،يدخل في ما يتعارف عليه بالسهل الممتنع..

وهكذا نجد أن الشيخ الشاعر عبدالله وا لحساين،قد تناول تيمتان تستحقان الانتباه، وتؤكد بالملموس،المستوى المعرفي الرفيع الذي كان عليه شاعر الملحون على الدوام…

  2النقد الصامت في شعر الشاعر إدريس المريني ( الثورة على قيود الشعر-التفاعل بين الشاعر والمتلقي):

وفي هذا الخصوص لايمكن لشاعر أن يطرح نظرية أو شبه نظرية للنقاش ويدافع عنها، إن لم يكن قد امتلك أدوات معرفية وازنة.. وكنموذج على ذلك ثورة الشيخ الشاعر ادريس المريني على قيود الشعر(4)والتي جاء بها على شكل قصيدة تجريبية في وقتها يقول فيها:

 علاهْ مايكونْ الشعر بلا حرفْ

غيرْ حسّ وقولْ الكلمات

ولودنْ تسمع ماقلتي

ولقلوبْ تغنـّي بغناكْ

تابعة تلذيذه المعنى

ولا عْناتْ بشي قافياتْ

لاشْ نحبسْ فكري فالحرفْ

ونحبسْ عقلي فالتبييتْ

ولفكارْ تماثلْ الطيورْ

مارْضات قفزْ من لبياتْ

جايبْ سلوكو من لحروفْ

والركايزْ من لقياساتْ.

ويكفينا تنويها في الملحون المغربي، أن تكون هذه الدعوة لصاحبها إدريس المريني في القرن التاسع الميلادي،لها السبق في طرح الموضوع قبل أن يستوي عند شعراء المعرب المنظرين كنازك الملائكة وبدر شاكر السياب..

وأمام هذه الجرأة في الطرح، والشاعر كان يعيش في أوج عطاء النهضة الأولى للملحون  تفرض علينا طرح الأسئلة التالية:

1-    كيف ترسّحت هذه القناعة الإبداعية في ذهن الشاعر إدريس لمريني،في غياب محاولات ونماذج قبلية،تشجعه على ذلك..؟

2-    من أين استمدّ هذه الجرأة في التنظير،والقصيدة الزجلية الغنائية في أوجها.؟

3-    وما هي النتائج التي كان يتوخاها من دعوته.؟

إذن هي بعض الأسئلة التي لانتوخى منها الحصول عن أجوبة لها، بقدر ما نحتاج إلى استنتاج القاعدة المعرفية لصاحب هذا الإنجاز، إدريس المريني..

وللإشارة، فإننا لانتوفر على معطى أنطولوجي خاص بالشاعر.. وفي هذه الحالة يمكن استقراء نصه الإبداعي،قصد الوصول إلى بعض النتائج المفيدة.على لمستوى المعرفي التعليمي..

فالشاعر قد استثمر ألفاظا راقية ، تظهر درايته العميقة باللغة العربية وآدابها.ونذكر من بين هذه الألفاظ:

المعنى- الفكر-العقل- التماثل- القافية- الشعر-الحس.. والأكيد أنه لو حصلنا على القصيدة كاملة لاكتشفنا ألفاظا وأفكارا إضافية..

 وفي باب المعاني في القصيدة فإننا نوجزها كالتالي:

–         بسبب قيود الشعر بدأ الحرف يغور

–         الأحاسيس تأخد مكان قيود الأوزان والقافية

–         حين يتحقق مطمح الشاعر، فإن الآذان ستكون صاغية، والقلوب ستردّد شعر الشاعر بكل تلقائية..

–         وأن الأفكار تماثل الطيور في طلب الحرية، حيث لن ترضى سجنها في قفص ولو كان من لؤلؤ ومرجان..

وهنا لابدّ أن ننتبه إلى سبق آخر جاء به الشاعر ادريس المريني،بإفساحه مكانة وازنة للمتلقي،وهي مكانة الإنصات المفضي إلى التفاعل الإيجابي.. حيث بعد الإنصات المفيد، سينتقل المتلقي إلى المشاركة في إنجازات الشاعر، حيث سيردد أشعاره وإنشاده…فحين تصغي الآذان إلى الشعر الحقيقي، فالقلوب هي التي تردّده وليست الألسن(5) ولو انتبه النقاد لوجدوا نظرية ادريس المريني هي نفسها التي كان يقصدها مجموعة من نقاد الغرب وعلى رأسهم رولان بارط، وحصوصا في كتابه الشهير »لذة النص » (6)..

وبالعودة إلى دعوة الشيخ ادريس المريني إلى التحرر من قيود الوزن والقافية..نذكر بأنها قد لقيت قبولا من شيخ أشياخ وقته محمد عبد الله بن احساين(7)  لكنها بقيت تراوح مكانها..إلى أن تطور نظام البيت التقليدي (المبيت) إلى أنواعه المعروفة، وصولا إلى الثورة التغيرية التي أحدثها بحر »مكسور الجناح »

وهنا نسأل هل كانت دعوة إدريس المريني بمثابة « صيحة في واد » ؟

والإجابة عن هاذ التساؤل، يحيلنا للحديث على خصوصيات القصيدة الزجلية المعاصرة، والتي ظهرت مع بداية السبعينيات، ومن أبرز روادها الزجال المغربي أحمد المسيح صاحب أول إصدار زجلي مدون سنة 1976 تحت عنوان:  » الرياح التي ستأتي » وهو أيضا من الزجالين القلائل الذين وجدنا أعمالهم الإبداعية تقدم أنواعا من النقد الصامت.. ولو انتبه هؤلاء الرواد قليلا، لوجدوا عصارة مرجعية مهيأة لهم، وأعني بها  دعوة إدريس المريني..وكم هو رائع أن تتعزز شجرة نسب فرسان القصيدة الزجلية المعاصرة بمثل هذه الإنجازات الفريدة والمتفردة….

 3) لنقد الصامت في شعر الشاعرمحمد  بنعلي ولد الرزين( ماهية الشعر):

لقد استحق الشاعر الفحل محمد بنعلي العمراني  ولد الرزين، لقب  » المعلم » عن جدارة واستحقاق..وكم يسعدنا أننا نتوفر على سيرته الذاتية النموذجية في التحصيل العلمي والإبداع الخالص الراقي… وهو ما مكننا من اكتشاف ميولاته النقدية.. وتضمين بعض نصوصه ما يصطلح عليه بالنقد الصامت.. ومن المعلوم أن شاعرنا كان من السباقين إلى مجال « فلسفة السؤال » التي تضمنتها قصائده في شتى المواضيع المعرفية، وعلى رأسها قصيدة  » الذرة » التي تظهرالشيخ العمراني  ولد ارزين كمثقف كبير، قد تفاعل مع تطور عصره.. هذه القصيدة التي يبلغ عدد أبياتها563 بيتا..(8)

وماهية الشعر، هي من أهم القضايا الأدبية التي طرحها الشاعر ولد الرزين من خلال قصيدته التي يقول في بعض أقسامها:

 ونسالْ من الدّعا على علم الشعر والمواهب

 وعْلى شمنْ اسْبيلْ يدخلْ لجْسامْ

 كانْ لهمْ فالخلقْ ارسامْ

 قسّموهْ لفْهامْ قسامْ

 من لايدْريهْ لايقولْ شاعرْ فالقول يجيبْ

 واللي ادْخل بْحر لهْوا بجهلو يلـْقاهْ صْعيبْ

 إلا من ودّو ربّنا الوهّابْ

 واللي ادْعا عليكْ بْجهلو بالكْ تسْتـْهابو

ماجابْ عوضْ سولاني

 ولو يعيشْ ماعاشْ المرو ولا يجيبْ لوْزام.(9)

 وسؤال الماهية، هوسؤال نظرية الشعر التي أفرزت العديد من النقاش والجدل في التعريف والمفهوم والكنه…وفي العلاقة الممكنة بين الشعر والفلسفة والتي تشير إلى قضية نمط الكتابة الشعرية.. وهو مفهوم متقدم عند الشاعر الكبير ولد الرزين.. قبل أن يحاط بعناية النقاد لاحقا، وخصوصا لدى الفلاسفة المسلمين (10) ووصولا إلى نظرية هيدجر في الشعر والفلسفة…(11)

إن ولد الرزين يدرك صعوبة الرد على سؤال ماهية الشعر،بل يدرك صعوبة ظاهرة الشعر برمتها..وهي نفس الصعوبة والحيرة التي همت غموض النفس البشرية..لأن الشعر هو وليد النفس البشرية ذاتها…(12)

يقول الشيخ الشاعر أحمد سهوم:

فالشعور وباشْ ماشعرْ

 يتدفق في حروف تجمع عبارة

 أو حديث النفس كلّ ماحسّاتْ

 بيحْساسْ خرقْ عادة يخرج تفسير

 الكلّ ما جدّ من أمرْ

 وفتفسيرو الكشف عن ما يتورى

 أو كلام القلب تيقول للناس بلا لفاظ

 معروف القلب خبيرْ….

 وهو تعريف مركز للشعر الذي نبحث عنه،فهو شعور ومشاعر،وتدفق الحروف قبل أن تجتمع في عبارات ومعاني،والشعر حوار النفس المستجيبة..وتفسيرعميق للكون وأشياءه.هذا التفسير الذي يفضي إلى اكتشاف مايخفى من نوازع وأحداث وإبراز تفاصيلها الصغيرة والكبيرة.كما يعرف الشيخ أحمد سهوم  الشعر :بأنه كلام القلب إلى القلب….

وبعودتنا إلى طرح النظري للشاعر الشيخ ولد الرزين، فإننا نسجل الملاحظات الإيجابية التالية:

1-    لقد قرن بين الشعر والعلم، وهو يعي معنى مقولة : حيث نجد أن الشعر إضافة إلى أنه إبداع لغة  وجنوح نحو التماهي والخيال،إلآ أنه يتضمن علوما مختلفة، منها: علم العروض،علم الموسيقى ، علم اللغة، علم الإيقاعات .فهو أدب وعلم وفن…

2-    جاء في معرض نصه المذكور سابقا، إشارته إلى لفظ  » المواهب »  إلى جانب كلمة شعر، وقد جاء بمعنيين: الأولى بمعنى الموهبة، والثانية بمعنى الشعر.حيث أن شعراء الملحون أطلقوا من بين ما أطلقوه من أسماء إنتاجهم الشعري، إسم  » العلم الموهوب » ويبدوا أنها تسمية تستند إلى مرجعية دينية… كما أطلقوا أسماء مختلفة، زادت من صعوبة تحديد تعريف لماكتبوه من إبداع..ومن ذلك نجد: الزجل، أسجال، الملحون، السجية،لكلام، النظم أو النظامْ، الشعر، لقريض،لوزان،العلم الرقيق، لكريحة..

3-    وللتعبير عن صدق وصعوبة اللحظة الشعرية، قارن الشاعر ولد الرزين بين دخول بحر الغرام، وما بداخله من لواعج وألم ومتعة وتوهج..وبين الدخول إلى عالم الشعر ومافيه من نفس المعاناة وزيادة..حيث لايمتلك ناصية القول الجميل، إلا من منحه الخالق إدراك كنه الشعر ودروبه..

يقول الشاعر:

من لايدريه لايقول شاعر فالقول يجيب

 واللي ادخل بحر لهوا بجهلو يلقاه صعيب

 إلا من ودّو ربنا الوهاب (13)

 إن هذه الرؤيا لعالم الشعر عند ولد الرزين، تؤكد عمق التجربة الشعرية ووضعها في مصاف أنواع القول الجميل وفي بوثقة الشعرية العربية الأصيلة..

ومن داخل هذه الرؤيا نفسها، يجعلنا طرح ولد الرزين أمام مجموعة من الإشكاليات.. منها إشكالية الماهية وإشكالية التعريف وإشكالية التوصيف…

فنحن أمام نص شعري (قصيدة) تتوفر على كل شروط بناءها وبقاءها..تقفز على التعريف التقليدي للشعر كونه كلام موزون ومقفى ..أو حتى أنه من اللحن بنوعيه الموسيقي واللغوي…أو مع من تحدثوا عن (الانزياحات) وما شابه ذلك وقد سبق للشاعر المنظر الشيخ أحمد سهوم ، أن طرح معطى جديدا في كتابه ( الملحون المغربي) (14)أن لفظ  » ملحون » تعني الفصاحة والبلاغة والبيان…(15) معتمدا في ذلك على ثلاثة أسطر من قصيدة عبد الله واحساين تقول:

 والقولْ كلّ ملحونْ           أوف: النــّظامْ مـــــــــوْزونْ

 ….. ملحونْ ف: لمْعاني موزونْ على نظامتْ النــُّظــــامْ..

 وفي ما أعتقد به، أن الأمر يتعلق بحاجة المغاربة إلى إبداع مستقل يشبههم..سبقه استقلال لغوي غني ومتطور، وهذا هو المهم ،أما في مايخص عمليه الإغراق في التعريف الزئبقي، إذ داك يمكن أن نستفيد من المقولة البليغة للمفكر الأمازيغي القديم أوغسطين حين سُأل عن تعريف الأسطورة فقال: (إنني أعرف جيدا ماهي، بشرط أن لايسألني أحد عنها، ولكن إذا ما سُئلت ، وأردت الجواب، فسوف يعتريني التلكؤ…

ويستفاد من كل هذا، أن شعر الملحون يحتاج اليوم إلى إعادة قراءته وفق أدوات إجرائية نقدية يستحقها..خالية من التكرار والمجاملات..

وكيف لا ونحن نقف مشدوهين أمام صور شعرية رائعة، وأمام تعريفات وتوصيفات لهذا الذي أبدعوه سحرا لايقاوم…

وقد نعث الشاعر لكبير سيدي قدور العلمي القصيدة « بالسيف » حيث يقول في القسم الثاني عشر من رائعته  » النهار » :

 صيغْ لحديثْ ياراوي دالحــــلا  ّ                الصافية ما فيها خـــْلا

 إذْ تصيبْ الناسْ للـْفضــــــــلا                 اثــــْنـــــاكْ يعــــْلــــلا

 غنـّي لغايْ وافتخرْ ببيــاتـــــي                 لاتخافْ من لوْ شـــاتي

 ولقصيدة سيف وتدركْ غمضها               يحضيكْ من شرّ لهـْوالْ

 وتشبيه القصيدة بالسيف، جاء به الشاعر على وجه الشبه الخاص في اشتراك الطرفين فيه (16) والتطابق فيهما الحدة والصعوبة، فالقصيدة من المخاض إلى الولادة صعبة وعصية.. والشعر في كليته يكتنفه الغموض في تعريفه وماهيته وكنهه..لأنه مرتبط بالعمق الإنساني التابث والمتحول كما سبق وأشرنا إليه..

وهذا فيه جزء كبيرفي هذا البيت من الأبيات الشعرية المشهورة   للحطيئة والتي تقول:

 الشعر صعب وطويل سلـّمه                 إذا ارتقى فيه الذي لايعلمـهُ…

 وإذا لم يدرك فيلسوف شعراء الملحون عبد القادر العلمي صعوبة القبض على جمر القصيد، فمن يفعل ذلك غيره.؟.ويالها من صورة مذهلة حين شبّه من لم يدرك غمض السيف ( القصيدة) سيصيبه شر الأهوال.. ومن أدرك الغمض نجا من هذا الشرّ ( الرمزي)… والغمض هنا يرمزبه الشاعر إلى لماهية والكنه..

وهاهو شاعر الملحون المعاصر لجيلنا وأقصد به الشيخ المنظر سيدي أحمد سهوم، قد تحدث عن أسس نظرية قوية في مجال إدراك الشعر في قصيدته

الرائعة:  التي أشرنا إليها سابقا  « الشعر عن الشعر »: والتي يقول في قسمها الثاني:

 والشعرْ اللي كرموهْ عشاقه ف:هاذْ الربيعْ دفقة من فيض غزيرْ

 فالشـُّعورْ وباشْ ماشعرْ  يتدفق في حروفْ تجمعْ عبارة

 أو حديثْ النفسْ كل ما حسّاتْ بيحساسْ خرق عادة يخرجْ تفسيرْ

 الكلّ ما جدّ من أمرْ    وفتفسيرو الكشفْ عنْ ما يتـْوارى

 أو كلامْ القلبْ تيقولوهْ للنـّاسْ بلا لفاظْ….  معروف القلب اخبيرْ

 ويلا يخبرْ صادقْ الخبرْ         منهُ يستلهمو عقول الخبرا

 تيهدم ويعاودْ يبني.. ويشطب ويعاودْ يكتبْ.. مبلي بالتغييرْ

 كما كانْ فقادمْ لعصرْ  باقي الآن فيهْ لدْهانْ حْيارى

 وجاوْ اللي عرفوهْ باينه قبض الريح.. هكذا قالو فالتنظير

 قبض الريح وساعت يظهرْ    يشعلْ ف: كلّ دربْ للنـّاسْ منارة (17)

 وإذا ما أردنا أن نحدد بعض الملامح التنظيرية من خلال تفكيك جزء من هذا لنص،فيلزمنا التركيز على ألفاظ ترتبط بعملية الإبداع ودواخل المبدع ومن ذلك:

الشعور- العبارة- النفس- الإحساس- تفسير- كون – كلام القلب- استلهام- هدم- بناء- التغيير- قبض الريح….

وهي مؤشرات تجعلنا نلمس أن الشاعر أحمد سهوم كشاعر ملحون يدرك تماما علاقة الشعر بالنفس البشرية، ومن تم حصول تلك الصعوبة الملازمة لتعريف الشعر وإدراك ماهيته.. وهو ما يوافق النظرية النفسية والتي تحدثت عن غموض النفس البشرية وتفسير ظواهرها، ومن تم نكتشف  فشل حتى الشعراء أنفسهم في تقديم تفسير لظاهرة الشعر، لأنه وليد النفس البشرية ذاتها…

كما نجد أن الشيخ الشاعر أحمد سهوم، قد استحضر في نصه الباذخ بصدق المشاعر والصور، مجموعة من المصطلحات والمرتبطة أساسا بالشعر. 

كالهدم والبناء والتغيير..وهي مصطلحات وقفنا على استثمارها في مجال تبريرات وجود قصيدة  النثر، لكنها في  حقيقة الأمر هي مصطلحات قديمة في تاريخ الشعر العربي .أما التغيير فهو عند الشعراء ضرورة اجتماعية إنسانية، ترتبط بوعي المرحلة والثورة على الشكلانية..(18) وقد يتحدث النقاد بإسهاب عن هذه المصطلحات واستعمالها من عصر أبي تمام إلى أدونيس..وفي نفس الآن لم يواكب النقد المغربي عنوة ومنذ تاريخ بعيد، عمليات الهدم والبناء والتغيير الذي شمل التاريخ الشعري – الموسيقي للملحون..فعلى الأقل على المستوى الشكلي فقد تم استثمار تلك المصطلحات في تطوير نظام البيت الشعري من المثني بأنواعه ألمتطورة، إلى مكسور لجناح والمشتب..واختراع الحربة ، والتجديد في موسيقى البيت الشعري وعلى المستوى الإيقاعي، من طرف الشيخ الشاعر الكبير الجيلالي امتيرد، بإنشاءه على وزن جديد للبحر المثني، وكذا على بحر غير معروف،حيث طبق الشاعر ذلك على قصيدة  » السّاقي » وجاء فيه « لفراش » الصدر أطول من « لغطا » العجز(19) يقول الشاعر:

 ألاّيمْ ما هزّكْ حالْ  – ماعليكْ بكلفة قلبكْ مُهجتـُه هنـّاها – من بْها زينـــــــاتْ التخليــــل

 ماشْفيتي مانكويتي – ولا نظرتهمْ في حُضرة على تفاقْ رْضاها- دكْ عندي بالخب تميلْ

 أما على المستوى الموضوعاتي ، فشعر الملحون قد فعـّل آليات التغيير بشكل ملحوظ، من خلال تناوله لكل قضايا المجتمع، انطلاقا من مقولة: الملحون « ديوان المغاربة » فمن التناول الديني الروحي إلى المرتبط بالعواطف والمشاعر، وصولا إلى أشغال تعبيرية رمزية، وجفريات بدلالاتها المتعددة، إلى القصائد التضامنية الاجتماعية التي تحدثت عن الفقير واليتيم وغلاء المعيشة وعام البون وانتقاد الضرائب المفروضة على الشعب المغربي الخ…

إن هذه الإطلالة على جزء يسير من النقد الصامت الذي نكتشفه في أشعار شعراء الملحون، هي دعوة منا لانفتاح نقدي أكثر، وباستثمار أدوات إجرائية نقدية متنوعة، قصد تقديم قراءة جديدة لهذا الشعر الذي يستحق بالفعل ذلك التناول الذي لايتأسس على التكرار الأعمى…بل يمنحنا إضافات تفرح بها الأعمال التأسيسية للرواد الأوائل وعلى رأسهم العلامة الفقيد سيدي محمد الفاسي، والعلامة العميد الدكتور عباس الجراري أطال الله في عمره، والشيخ الشاعر والمنظر سيدي أحمد سهوم أطال الله في عمره، ومجموعة أخرى من أهل البحث الرزين يتصدرهم أستاذنا عبد الرحمان الملحوني أطال الله في عمره.. وكم يهمني ويسعدني أن أربط كل ذلك، بعمل أوفياء مخلصين محبيين ومولوعين بهذا الفن الخالد.. ساهموا فرادى وجماعات في إبراز القيمة الحقيقية للملحون ورجالاته الأفذاذ.. ونذكر من هؤلاء أستاذنا الجليل الباحث وعاشق الملحون الولهان، رئيس جمعية الملحون بمراكش  الأستاذ سيدي عبد الله الشليح.. والذي وكما قدّر له الخالق أن تكون مهنته نبيلة تدافع عن الحق.. فقد أكرمنا سبحانه وتعالى ، بدفاع هذا الرجل العظيم على حضور ومكانة الملحون، وأعطى من أجل ذلك الغالي والنفيس..وقد يطرح الإنسان منا، ماذا ربح الأستاذ عبد الله الشليح بعد هذا العمر المديد في خدمة الملحون؟ وهل الإجابة لها علاقة بالربح والخسارة وكأننا في خضم تجارة، بل ربح أستاذنا الكبير  محبة الناس له، ذلك الحب المبهور بالإخلاص والاعتراف.. ( وذلك هو الفوز العظيم)….

 الهوامش والمراجع:

 1- تأليف مجموعة من الطلبة : منشورات مهرجان فاس لفن الملحون 2004

2-  شاعر  ملحون مؤسس من تافيلالت، أشـّر على انطلاق القصيدة الزجلية الغنائية…

3- أنظر كتابي : أنواع الزجل بالمغرب من الغنائية إلى التفاعلية – دراسة ونصوص. -.ص: 92

4- وقعت هذا الحدث تقريبا سنة 960 للهجرة الموافق ل 1552 ميلادية . أنظر كتابي أنواع الزجل بالمغرب من الغنائية إلى التفاعلية –دراسة ونصوص-

    ص: 92

5- المرجع نفسه ص: 106

6- بارط رولان: لذة النص ، ترجمة فؤاد صفا والحسين سحبان دار توبقال للنشر الدار البيضاء.

7-الجراري عباس: القصيدة –الزجل في المغرب- مكتبة الطالب الرباط 1970 ص: 580

8-المرجع نفسه ، ص:621

9-    أنواع الزجل بالمغرب: مرجع سابق ص: 66

10-    آيت أوشان علي:التخييل الشعري في الفلسفة الإسلامية،منشورات اتحاد كتاب المغرب 2004 ،ص:106

11-  يرى برونز أن أسلوب هيدجر ، يكمن في التحررمن الأسلوبية، ومن فهم النص الأدبي بتطبيق معينة في القراءة ومنهج في التحليل.

12- مقال : « ماهو الشعر » web www.stertimes.com

13- أنواع الزجل بالمغرب، مرجع سابق .ص: 67

14-  سهوم أحمد: الملحون المغربي، منشورات شؤون جماعية الدار البيضاء 1993 ص: 230 

15- المرجع نفسه، ص : 230

16- المراغي مصطفى أحمد: علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع ، دارالكتاب العلمية بيروت لبنان، ص:213

17-  أضمومة شعرية تضم مجموعة من قصائد الملحون: منشورات مهرجان فاس لفن الملحون دورة أبريل الثالثة، ص: 10

18- عاشت الشلامية على الخصوص بروسيا من 1915 إلى 1930 ، واجهت مجموعة من الانتقادات، لكنها تركت إرثا أدبيا ونقديا مهما.. ويعرفها أحد أهم منظريها وهو ف ستلوفسكي بقوله:  » إنها المنهج الشكلي في جوهره بسيط ، هو الرجوع إلى المهارة في الصفة، وهو تطبيق النموذج التكنولوجي على الإنتاج الفني الإنساني.

19-    ديوان الشيخ الجيلالي امتيرد:موسوعة الملحون، منشورات أكاديمية المملكة، إشراف وتقديم د عباس الجراري (قصيدة الساقي) ص:221

 

مقالات قد تعجبك

Share This