البنية الرمزية في قصيدة الملحون الصوفية الساقي لسيدي قدور  العلمي نموذجا – ذ.عبد الصادق سالم

البنية الرمزية في قصيدة الملحون الصوفية الساقي لسيدي قدور  العلمي نموذجا – ذ.عبد الصادق سالم

البنية الرمزية في قصيدة الملحون الصوفية
الساقي لسيدي قدور  العلمي نموذجا

ذ.عبد الصادق سالم

هذا المقال تم نشره من طرف جمعية هواة الملحون بمراكش
من خلال الكتاب الذي ألف بمناسبة تكريم الأستاذ عبد الله الشليح
وجميع حقوق النشر محفوظة للجمعية

يعتبر الشيخ عبد القادر العلمي، المعروف بسيدي قدور العلمي (1154هـ-1266هـ) (1742م-1850م) أوفر سائر شعراء الملحون حظا لدى النقاد والدارسين والمؤرخين، قديما وحديثا. فقد عنى به وأرخ له مؤرخونا الذين عاصروه والذين جاؤوا بعده. وهذا أمر لم يكن معهودا فيهم، إذ نادرا ما نجد ذكرا لأحد شيوخ الملحون في كتبهم وتآليفهم- إلا من كان منهم صاحب شعر معرب أو ذا صلاح وولاية- كما اهتم به مستشرقون كثيرون، فكتبوا في ترجمته ونقلوا أشعاره إلى اللغات الأجنبية (أمثال: سونيك Sonneck  وفيشر Fischer وبيريت Buret) ولا زالت شخصية العلمي واشعاره تلقى العناية والإقبال في وقتنا الحالي، بسماعها مغناة من قبل أشياخ لكريحة أو بدراستها وتحليلها، أو بإخراجها على شكل أعمال مسرحية

غير أن هذه الحظوة التي وجدها شاعرنا في أوساط المهتمين بفن الملحون، والتي لا تزداد إلا قوة ورسوخا مع توالي الأيام، تتضاعف معها اختلافات هؤلاء حول المسار الروحي الذي تدرجت عبره شخصيته، والذي يوازيه مسار فني تقلب في أطوار وأحوال نتيجة التقلبات التي شهدتها حياته. فمن المؤكد لدى الجميع أن شاعرنا العلمي كان ذا صلاح وتقوى وولاية، كما قال عنه المؤرخ عبد الرحمان زيدان في « الإتحاف »: « كان رحمه الله من أهل المقامات العالية والأحوال السنية لا يعرف لعبا ولا لهوا ولا ما يرجع لزخرف الدنيا وزينتها » (عن: د. عباس الجيراري. القصيدة)

فجاءت أشعاره طافحة بالحكمة والأنوار الربانية والتوسلات الإلهية والمواعظ الجليلة. غير أننا إلى جانب هذه الأغراض ذات النفس الديني –الصوفي، نجد ديوان العلمي طافحا كذلك بأشعار الغزل والخمرة والمرأة … فكان هذا مصدر اختلافات الدارسين لشعره، يوجهها السؤال التالي: هل تصح نسبة الخمريات والغزليات إلى شاعر عفيف تقي ورع من عيار سيدي عبد القادر العلمي؟

ويمكن تصنيف المذاهب التي ذهبوا إليها في الموضوع، مذهبين رئيسيين:

الأول: مذهب قال بصحة نسبة الخمريات و الغزليات إلى العلمي بمثل درجة صحة نسبة التوسلات والمواعظ والمدائح النبوية، إليه، وذلك على أساس أن مسار حياته قد تطور عبر مرحلتين: الأولى مرحلة الحياة الطبيعية التي عاش فيها حياة عادية أحب فيها الحياة وتمتع بها .. وفيها نظم قصائده الغزلية والخمرية. والثانية مرحلة زهد وانقطاع عن الدنيا وابتعاد عن متعها ولذاتها، وفيها نظم معظم توسلاته ومدائحه النبوية ومواعظه ووصاياه

أما المذهب الثاني: فإنه لا يرى هذا الرأي ويذهب إلى أن غزلياته لم تكن في مُعيَّن، وان خمرياته يجب النظر إليها بأنها خمريات صوفية، ومن ثمة ينبغي تأويلها لاستخراج كوامنها وذخائرها.

وفي هذا السياق، نريد من هذه المحاولة الوقوف عند خمريته الشهيرة: قصيدة الساقي، للإجابة عن السؤال التالي: إلى أي حد يمكن قراءة هذه القصيدة الخمرية قراءة صوفية؟ تتوخى هذه الورقة إذن، استنطاق المعجم اللغوي للقصيدة والكشف عن بنيتها الدلالية لفك بعض ألغازها ودقائق تعابيرها.

1- تقديم القصيدة

-عنوان القصيدة: الساقي، وتعرف أيضا بقصيدة: الفجر، وهي من بجر « لمبيت » في أحد « قياسات » الثلاثي منه. تتكون من سبعة أقسام. وباستثناء القسم الأول، نجد الأقسام الستة الأخرى مستهلة بسويرحة أو نواعر أو مطيلعات، وبذلك يتكون كل قسم من أربعة أبيات –سويرحة وأربعة أبيات أصلية، مع الإشارة إلى أن المنشدين للقصيدة يحافظون على ترديد عبارة « يا ساقي » بعد الشطر الأول من كل بيت من الأبيات الأصلية. أما لازمة القصيدة أو حربتها فهي

راح الليل وعلم الفجر تاك الصبح الراقي       *      (يـا ساقــي)

در على الحضرا بفنجلك تزيان الموسيقى       *      وازرع للساهي ايفيق

2. في عنوان القصيدة

يحمل الكثير من قصائد الملحون الخمرية عنوان « الساقي » مثلها نجد عند الجيلالي امتيرد أو عند التهامي المدغري أو غيرهما. والساقي في أدبيات الخمرة هو الغلام (أو الجارية) الذي يتولى توزيع الخمر على الندامى، ولهذا يخاطبه الشاعر في لازمة القصيدة

در على لحضرا بفنجلك تزيان الموسيقى  *    وازرع للساهي إيفيق

فعبارة « يا ساقي » التي يرددها المنشدون على مسار القصيدة، تشكل شطرا متميزا داخل البيت، وتمنح القصيدة بأكملها وجهة خاصة، مفادها أن الخطاب من المرسل/الشاعر موجه إلى المرسل إليه/الساقي فما دلالة هذا المفهوم الذي يحتل موقعا مركزيا في النص؟

كلمة « الساقي » اسم فاعل من فعل سقى، أي أروى الغلة والعطش، فالسقي هو الري والارتواء. والري لا يكون إلا بالماء، والماء مبدأ الحياة « وجعلنا من الماء كل شيء حي ». فالسقي إذن يفيد الارتواء وزرع عنصر الحياة في الجسد: إخراج الحي من الميت

وفكرة إخراج الحياة من الموت الواردة في قوله تعالى « يخرج الحي من الميت » طالما استغلها الصوفية للدلالة على سلوك الطريق وخوض التجربة، إذ أن التصوف هو إخراج للحياة الحقة، المتمثلة في الروح، الجوهر الرباني في الإنسان، من الجسد أي المادة رمز الموت والجماد والصنمية. ولا يتأتى هذا للصوفي إلا إذا قذف الله في قلبه « نورا »، على حد تعبير أبي حامد الغزالي، وهذا المسمى إشراقا أو إلهاما أو حدسا

وعليه فإن مفهوم السقي والساقي هنا يفيد الإشراق والنورانية

3. البنية السردية في القصيدة

بنى الشاعر قصيدته على خطة سردية، يبرز فيها تدرج الحالات واللحظات الشعرية بشكل نسقي، يتضمن الثوابت الأساسية التي تقوم عليها البنية الدلالية للقصيدة.

وتتشكل الخطة السردية للقصيدة من أقسامها السبعة، بما فيها السويرحات التي تسبق كل قسم على حدة، ويمكن استشفاف هذه الخطة من خلال ثلاث وحدات أساسية يمكن توزيع أقسام القصيدة إليها

-ففي الوحدة الأولى (القسم الأول)، يخاطب الشاعر الساقي ويستوقفه عند العنصر الأول في المنظومة الرمزية للقصيدة وهو: الطبيعة

شف أهمام الضو بانت علومو فلأفاقي        *      وانظر لشموسو الباهيا عل لجدار شريقا

هزمت سلطان لغسيق

وأطيار البستان كتسبح للحي الباقي   *      فوق أغصان الروض كتحنن بأصوات رقيقا

صاح البلبل والبشيق

-وفي الوحدة الثانية (القسم الثاني والثالث)، يظل عنصر الطبيعة حاضرا، ويتوجه بالخطاب إلى الساقي لطلب الخمرة. فالعنصر الرمزي الثاني الذي ظهر هنا هو: الخمرة، فيصفها ويصف فضاء الإنس والطرب المصاحب لها. يقول في طلبها وفي وصف صفائها ورقتها:

طار غراب الداج والخمر فالاواني باقي       *      اهدي كاسك للمليح واخضع لو بتبنديقا

وافهم معناتو وعيق

اروي يا ساقي خمر قمصالك وسط رواقي    *   ويلا فاض الكاس كل قطرة فالأرض عقيقا

واصفى من الدر الشريق

ويقول في وصف سعادته وانتشائه والتعبير عن رغبته العارمة في التمتع بمجلس الطرب

سعد زماني تاك كوكبي وتنور إشراقي        * هذا وقت سعيد كب كاس الخمرا العتيقا

لا ترتاشي للرحيق

غني باشعار القدام واذكر طبع العشاقي       *      متعني في جمال صورتك والحاظك لغسيقا

يا خد الورد الشريق

بصنايع وسجول والتواشح من شغل ذواقي    *      واذكر قصدان اكباح وبراول فترونيقا

من شغل الحبر اللبيق

– وفي الوحدة الثالثة (الأقسام الثالثة الموالية)، ينتقل إلى العنصر الرمزي الثالث: « الحب »، فمن الحسن إلى الحب، يصف سلطانه وجبروته وقوة تأثيره. ومن الحب إلى المحبوب يصف بهاءه يفتح مناجاته والتدرج اليه، يقول في هذه السويرحة:

دق الحسن اوتاقو       *      وارخى سر مساقو     *      والزين خلاقـو اليـاق

دار الحب تماقـو        *      لمطرز بمساقــو     *      وخرج لاصحاب لشواق

وامر عن عشاقـو      *      قدامو ينساقـــو    *      واحيا لعهـود لوتـاق

ويقول عن سلطان الحب وقوته

من حربو لعصيف تاه قيس وجابر لعراقي * والعبسي لهمام عنتره تركو الحب فضيقا

وسقاه السم الخريق

كي كان من ازمان حاط قدامو على لعناقي *  لدابا مازال سيرتو عند الناس حقيقا

لاحد لحربو يطيق

إلى أن يقول مستعطفا المحبوب

إلى تعطف لي نصيب عقلي ويزل حماقي * ويلا تجفيني تعود روحي فالذات قليقا

والنفس فصدري تضيق

وصالك كمية لجيب فكري، وضيالغساقي * اوصالك رافة، وصد هجرانك نار خريقا

بجمار لظاها حريق

ففي هذه الوحدة، يدخل الشاعر لحظة الحيرة والتردد بين الخوف والرجاء: الخوف من الهجران والرجاء في الوصال، ليبرر في النهاية السبيل إلى ذلك وهو: ضرورة سلوك الطريق..

أما القسم الأخير من القصيدة، فقد خصصه على عادة شعراء الملحون في بعض قصائدهم، « للتزريب » على قصيدته،  وذلك بإعلان التحدي أمام الخصوم والأدعياء، والتباهي بعلو كعبه ورسوخ قدمه في ميدان « النظم » و « الميزان ». ومع ذلك فإن ورود عبارات من قبيل « أهل التحقاق » و »أرباب الطريق »، في هذا القسم، يضفي عليه شحنة صوفية واضحة، ويبقيه في إطار السياق العام للقصيدة.

من خلال هذا العرض المقتضب للبنية السردية للقصيدة، نتبين أن العناصر المكونة للمنظومة الرمزية في شعر الخمرة الصوفية، تتضمنها القصيدة وهي ثلاثة: الطبيعة – الخمرة – الحب (المرأة)فما هي دلالات هذه الرموز؟ وما هي البنية الدلالية التي تؤطر القصيدة؟

4. البنية الدلالية في القصيدة

سنقف هنا عند المفاهيم الثلاثة الأساسية التي استخلصناها من وحدات  القصيدة، للبحث عن دلالاتها.

أ.مفهوم الحب

هذه مقولة أساسية ضمن أدبيات التصوف، بل إن الصوفية يعتبرون المحبة حالا من الأحوال ومقاما من المقامات، فلا يوجد صوفي من المتقدمين أو المتأخرين إلا وتحدث في الحب والمحبة

وهذا أمر طبيعي، لأن كل تجربة صوفية إلا وهي مبنية من حيث المبدأ على أساس الحب، فلولا حب الله تعالى، والتعلق به إلى درجة الحلول أو الاتحاد أو الفناء … لما انقطع  الصوفية عن الدنيا وملذاتها لينقطعوا إلى الله كلية. وفي الحديث القدسي جاء أنه « ما يتقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضت عليه. وانه ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها. إن دعاني أجبته و إن سألني أعطيته »

وهكذا تبلغ العلاقة بين المحب والمحبوب أقصى درجاتها وهي حالة التوحد حين يحصل الرضا والقبول من طرف المحبوب، ويتحقق الوصال، وتنكشف الحجب. فالرضا هبة من الله يمنحها لمن يحب، فتكون سعادته هي السعادة القصوى، يقول شاعرنا

 

هذا حكم الله، الجليل، البر، الرزاقي *  يا سعدات اللي سعادتو فالازل سبيقا

ورضاه الحق لحقيق

وهكذا نتبين أن مقوله الحب والمرأة وما يرتبط بهما من الصفات والكلمات، ليست إلا رموزا يوظفها الصوفية لأداء معاني دقيقة وحالات خاصة.

ب.مفهوم الطبيعة

ما دلالة أن يتوجه الشاعر ومنذ مطلع القصيدة إلى الطبيعة؟ إن الجواب عن هذا السؤال لا يتأتى كذلك إلا من خلال اللجوء إلى المرجعية الصوفية. فالصوفي يتعامل مع الطبيعة تعاملا متميزا، وينظر إليها نظرة غير نظرة الإنسان العادي. فليست الطبيعة هي ذلك الفضاء الرحب الذي تتحرك فيه الأجسام الآدمية، وتتحقق المآرب والأغراض المادية، بل هي حسب اتجاه صوفي عريض: « تجل لله » « الذي أحب أن يُعْرَفُ بعد أن كان سرا مجهولا، فخلق الخلق ليعرف » كما جاء على لسان محيي الدين بن عربي. فذات الله تعالى تتجلى في مخلوقاته من أدناها (الجمادات) إلى أعلاها (الإنسان)، باعتبار هذا الأخير، العالم الصغير الذي انطوى على  العالم الكبير. وبذلك تصبح ذات الصوفي، بعد أن تتحقق لها الكمالات –قادرة على رؤية الله في كل شيء، كما قال ابن الفارض

تراه إن غاب عني كـل جارحــة  *  فـي كل معـنى لطيف رائق بهـج

في نغمة العود والنـاي الخيـم اذا  *  تألقـا بيـن ألحـان مـن  الهـزج

وفي مسارح غزلات الخمائـل فـي  *  برد الاصائل والاصباح فـي البلـج

أما عند الشاعر العلمي، فإن مظاهر الطبيعة وأوصافها تتخلل متن القصيدة في كل أقسامها. ففي القسم الأول وحده، تستوقفنا الإشارات الواردة في ذكر أصوات الطيور وأفعالها، فهي لا تغرد أو تنشد كما ألف الشعراء القول: بل هي: تسبح لله … وتشكو إليه… معبرة عن ولوعها وعشقها، يقول

وطيار البستان كتسبح للحـي البـاقـي *  فوق غصان الروض كتحنن باصوات رقيقا

صاح البلبل والبشيق

شف أم الحسـن شاكيـا للحـي الخلاقـي *  بغرام هواهـا لانها مولوعا وعيشقا

بالحب جسمها رقيق

وجدير بالإشارة إلى أننا نجد عالم الطيور حاضرا في القصيدة كلما هم الشاعر بالوقوف عند مظهر من مظاهر الطبيعة. فما دلالة الطير في النسق الصوفي الرمزي؟

يذهب لويس ماسينيون من خلال قراءته للخطاب الصوفي إلى أن الطائر رمز للبعث والخلود، وذلك استلهاما من قوله تعالى: « وإذ قال إبراهيم رب ارني كيف تحيي الموتى. قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي. قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك، ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتينك سعيا » (سورة البقرة آية 260). ويقول تعالى في سورة آل عمران (الآية 49): « إني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله »

وإذا كان الأمر هكذا، وصادرنا على هذا الفهم للآيات القرآنية، فهل من باب الصدفة أن يقول الشاعر العلمي

وأطيار البستان كتسبح للحي الباقي؟ لماذا لم يختر من اسماه الله الحسنى الا اسمي « الحي » و »الباقي »؟

فالعلاقة  واضحة هنا، إذن، بين رزمية الطائر إلى الخلود والبعث وبين مفهومي الحياة والبقاء

ج.مفهوم الخمرة

إذا كان الحب هو العاطفة الجياشة  والباعث القوي الذي يدفع التجربة الصوفية ويوجهها ويؤطرها، وإذا كانت الطبيعة هي الفضاء الذي تتحرك ضمنه هذه التجربة، كقول ابن عربي:

فما نظرت عيني إلى غير وجهـه  *  ولا سمعـت اذنـي خـلاف كلامـه

فإن مقولة الخمرة هي الغذاء الذي تتغذى به هذه التجربة إنها مصدر حيويتها وعنفوانها

تتراوح ذات الصوفي حين ينخرط في سلك السالكين بين حالين: حال الصحو التي تشده إلى الواقع المادي بأهوائه وشهواته، وهذه حال مرفوضة وهي هدف لمقاومة الصوفي ومجاهدته. أما الحال الثانية ففيها يغيب عن الواقع المحسوس (عالم الشهادة)، ويخرج من تيار الزمن العادي، ليدخل عالم الغيب، العالم الجواني، عالم الحقيقة. وهي حال غيبوبة وسكر، والسكر كناية عن الوجد الصوفي، وما يقابله من معاناة في طلب المحبوب. وهذه هي الحال التي تجعل عقدة لسان العارف الواصل تنفك، فتبوح الذات بأسرارها وتنطق العبارة بالإشارة و »الإشارة أفصح من العبارة، فإن العبارة تفتقر إلى علم الاصطلاح وليست الإشارة كذلك » ( عن: جورج كتورة. التصوف ولغة الرمز)

وهكذا، فالخمرة التي تحدث حالة السكر ليست شيئا آخر غير الحقيقة التي تشرق نورا في قلب العارف –العاشق فتدخله في غيبوبة، يتذوق نشوة السكر –الوجد، وحلاوة الوصال

فهذا ابن الدراج السبتي يقول

الا كل عقل لا تخامـره الخمــر *  فمعناه من معنـى اشارتهـم فقـر

اضاءت كمشكاة عذت في زجاجه  *  تتلألأ اشراقا كمـا يشـرق النهـر

خلعت عذاري في لذائذ  شربهـا   *  فلا خير في اللذات من دونها ستـر

سمحت لنفسها كي افوز  بنيلهـا  *  ومن خطب الحسناء لم يغلها المهـر

أما شاعرنا فيفصح عن رغبته في الخمرة لتنفرج كربه ويكتمل تحقق الفرج الذي ينتظره وتستكمل ذاته رونقها وإشراقها وسعادتها، يقول

غدر لي تكمل فرجتي يتحقق روناقي * ترك الخمر وهات لي الصهبا فالكاس حقيقا

واملالي ذاك لبريق

كاتب مولانا السعيد ساعد والشاقي شاقي * لا تستكرب من ذنوب ولا تتكل عن تيقا

مولانا غاني شفيق

والصهباء هي الخمر ذات اللون الأبيض تخالطه حمرة، فهي خمرة جيدة ونفيسة ومؤثرة. وهو هنا يميز بين مستويات في جودة وفعالية الخمرة، كما يميز الصوفي بين درجات في إدراك الحقيقة، فهناك الحقيقة التي هي للعامة وهناك الحقيقة التي هي شيم الخاصة، وهناك الحقيقة الحقة وهي من شيم خاصة الخاصة أي الأولياء والأنبياء 

 

5.بنية النور / الظلمة

بعد أن تبينا العناصر الرمزية الأساسية التي تشكل حولها القصيدة وهي: الطبيعة – الخمرة – المرأة/الحب، نتوقف لاستخلاص البنية التي تنتظم هذه العناصر في بناء نسقي يعكس رؤية خاصة للحقيقة

فمن خلال تأمل المعجم اللغوي الذي وظفته القصيدة، نجد مفهومين قد توزعا فضاء النص كله، يتمظهران في أشكال مختلفة حسب كل عنصر على حدة. هذان المفهومان اللذان يشكلان البنية العميقة للقصيدة هما

مفهوم النور ومفهوم الظلمة

أ.مفهوم النور

والعلامات التي تعبر عن مفهوم النور في القصيدة، نذكر منها ما ورد أولا في المطلع: « شف همام الضو بانت علوموا فالافاقي… » فهذا الشطر الشعري تكثيف للعلاقات التي تفيد معنى النور والإشراق، وهي السمة الغالبة على معظم معجم النص: همام الضو، بانت علومو – شموسو الباهيا، اشريقا، علم لفجر، تاك الصبح، الراقي، الشارقا، تاك كوكبي، تنور ايشراقي، أرمى الصبح ارواقوا، لبس حلات لشراق … والى جانب هذه الكلمات التي تدل على النور بصورة مباشرة، هناك العديد من الأفعال والأسماء والتراكيب التي تفيد هذه الدلالة بكيفية غير مباشرة: ماس الغصن، تزخرفت احدايق، فاح الزهر، اروات غصانوا، طاب سرور العاشق، البستان الباسق، الغصن النايق، اغصانو رقاق ..

فالنور والجمال والجلال، صفات لحقيقة واحدة هي التي أشرقت في فضاء القصيدة. والنور في النسق الرمزي الصوفي هو: الله عز وجل، مصداقا لقوله تعالى: « الله نور السموات والأرض » (سورة النور)، واستلهاما لقوله في سورة القصص: « فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله، آنس من جانب الطور نارا، قال لأهله: امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم بخبر، أو جذوة من النار لعلكم تصطلون. فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى أنا الله رب العالمين »

ب.مفهوم الظلمة: والعلاقات التي تفيد هذا المفهوم في القصيدة، نذكر منها

(راح) الليل، (طار) غراب الداج – (خلع) الداج اغساقو – اغساقي

والملاحظ أن هناك تفوقا للمعجم النوراني عن المعجم الذي يفيد الظلمة، وذلك لان فضاء القصيدة فضاء الإشراق والنور والتجلي، بينما الليل /الداج، قد انهزم وولى وراح، فلم يرد حضوره في القصيدة إلا بصورة سلبية.

ومعنى هذا بلغة أهل التصوف أن الظلمة رمز لحجب النور /الحقيقة، والذين تظل بينهم وبين الحق سبحانه حجب، فهم بعيدون كل البعد عن الحقيقة. « وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب » (صورة فصلت)، أما الذين ارتفعت الحجب بينهم وبين الحق وأشرقت عليهم أنواره، فأولئك هم السعداء، الذين « رضي الله عنهم ورضوا عنه »

خاتمة

ننتهي من هذا، إلى أن القصيدة التي بين أيدينا تعكس تجربة صوفية ورحلة رمزية توجت بالوصال، لان صاحبها « يدري نهج الطرق » فهو من « أهل التحقاق » ومن « أرباب الطريق ».

وهكذا يمكننا أن نجيب عن السؤال الذي انطلقنا منه في بداية هذه المحاولة، لنقول أن قصيدة الساقي باعتبارها قصيدة خمرية تقبل القراءة الرمزية الصوفية، ومن ثمة نقول: إن الذخيرة التي خلفها سيدي عبد القادر العلمي تجعل منه بحق شاعر الحكمة والتصوف، بين شعراء الملحون بالا منازع 

المراجع المعتمدة

1.القرآن الكريم

2.عباس الجراري: القصيدة، الزجل في المغرب، الطبعة الأولى، 1970

3.محمد الفاسي: معلمة الملحون، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية

4.أحمد سهوم: الملحون المغربي، منشورات « شؤون جماعية » 1993

5.جورج كتورة: التصوف ولغة الرمز، مجلة الباحث، العدد 17 ماي 1981

6.نصر حان ابوزيد: فلسفة التأويل، دار التنوير، الطبعة الأولى، 1983

مقالات قد تعجبك

Share This